إذا بدا كل شيء حولك مظلمًا ، انظر مرة أخرى ، قد تكون أنت النور (جلال الدين الرومي)
“العنوسة” كلمة ثقيلة على القلب أكثر منها على الأذن، فهي تخترق روح كل فتاة تظن أنها تأخرت كثيرا عن إيجاد شريك حياة. ولو بقي الرجل عازبا طيلة عمره، فهو لا يُكنّى ب” عانس” أبدا.
لأسباب معروفة جدا ولا داعٍ للتفكير فيها حتى! إنّها “الذّكوريّة” في مجتمع يقدّس التقاليد والعادات. سأحاول في هذا البحث أن أعرض كل ما يرتبط بهذا “المصطلح” وتأثيراته على الفتاة بالأخصّ، ولكم
تعريف العنوسة
العنوسة بكلمة هو أن يكبر الرجل أو المرأة ولم يتزوّجا.وقد درجت العنوسة منذ القدم، وقد ذكرها الشّاعر العربي أبو قيس بن رفاعة في
بيت له:
منا الذي هو ما إن طر شاربه والعانسون ومنا المرد والشيب
وقال أبو ذؤيب الهذلي:
فإني على ما كنت تعهد بيننا وليدين حتى أنت أشمط عانس
العنوسة والزواج
يرتبط مفهوم العنوسة بالزواج أو العلاقة بين الجنسين، بحيث إن وجود تلك العلاقة ينفي كلمة عنوسة بالمطلق لذا كان الرابط وثيقا وملاصقا لحد كبير.لذا لا بدّ أوّلا من طرح مفهوم الزواج والعلاقات في مجتمعاتنا. إن العلاقة بين الجنسين أمر ضروري جدا،وحاجة ماسة جسديا نفسيا،فكل كائن بشري هو طاقة تحتاج إلى إشباع، من الجنس الآخر تماما كحاجته للطعام والشراب، وبالتالي تتفاوت الحاجات تلك بحسب كل شخص على حدة. فالإنسان يمكن أن يكون نهما تجاه الطعام أو الشراب أو النوم والجنس، وإما عفيفا في ذلك كله، ولكنها حاجات ملحة للبقاء والاستمرارية بلا شك. ويسهب العلماء والأطباء في شرح ذلك، وعلى رأسهم الزعيم “سيغموند فرويد” الذي ربط الإنسان بكل كينونته وفي كل مراحل حياته بالحاجات الجنسية. وقد أُخذ عليه ذلك وهوجم علما أنه لم يتكلم إلا من منطلقات علمية مدروسة.
أنواع العلاقات
تختلف الطرق التي يمكن أن تربط بين الذكر والأنثى ولن نعتبر تلك العلاقات الشاذة التي تربط بين أبناء الجنس الواحد،علاقة مشروعة أو طبيعية. فتلك (غير مبررة الشيوع) كما يحصل اليوم، وكما يكثر الدعاة لتشريع تلك العلاقة غير الصّحيّة. نستثني هنا، أشخاص خُلقوا مجهو الهوية الجنسية، هؤلاء، يذهبون إنما لعلاج أو لتصحيح تلك الهوية بحسب ما تقتضي الحاجة.
الشذوذ
خطرٌ فادح ما يحصل اليوم من تعميم للشذوذ، ومن ترويج لزواج المثليين، فهذا يهدّد الفطرة الإنسانية كما يهدد أجيالنا من كل النواحي دون استثناء! تخيّلوا معي- يرعاكم الله- مجتمع يتزوج رجاله برجال، ونسائه بنساء. أي مستقبل لأبنائه وأطفاله؟ أتلك حياة؟ دعوني هنا أبحر قليلا في قارب العشق الجميل مع قيس وعنترة وجبران ونعيمة، ومع نزار قباني عندما ناجوا العين الكحلاء والخصر الناعم والشعر المدلهم كالليل والصوت الشجي الرقراق.. لليلى وبثينة ومي وبلقيس.. هكذا خُلقنا وكذا سنموت.. نشتاق ونعشق رجل لامرأة وأنثى لحبيب. نعود لأنواع العلاقات الطبيعية بين الرجل والمرأة وهي على الأشكال التالية:
الزواج
وهو المؤسسة الاجتماعية التي ترعى العلاقة هذه بشكلها الطبيعي في رباط جميل مقدس،له طقوسه وعاداته التي توضحها الأديان وتكرسها باختلافات بسيطة بين دين وآخر.
أنواع الزواج
الزواج الديني
يضمن بصراحة إشباع الرغبات الجسدية-النفسية لكلي الجنسين وفي وقت مبكر نسبيا أي قبل الحرمان منها والشعور بالجوع والنقص. كما إنه يكرس مفهوم “الأسرة” أصل بناء المجتمعات. يقول ابن خلدون في مقدّمته:” السياسة المدنية هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق والحكمة ليحمل الجمهور على منهاج يكون فيه حفظ النوع وبقائه.
“هذا القول يبيّن أنّ المنزل أو الأسرة هي البذرة الأساسيّة للمجتمع والمدينة وفيها تبنى الأخلاق والحكمة.
الزواج المدني
وقد ظهر في الدول الأوروبية عام 1792 بعد الثورة الفرنسية، بحيث أصبح الزواج الديني ثانويا بعد الزواج المدني، ثم نشر نابليون هذا الزواج في اوروبا ليصبح الزواج الوحيد المعترف به،أما في العالم العربي فقد تأخر كثيرا قبول هذا الزواج الذي يتم في المحكمة بين شخصين مسجلين في السجلات المدنية لدى الدولة، واعتُبر محرما.
المساكنة
وهي علاقة خارج إطار الزواج يتفق فيها شخصين، حبيبين.. على العيش معا دون أي ارتباط رسمي وقد راج في الغرب منذ زمن بعيد، وهو موجود في عالمنا العربي بندرة أوخفية. إذا سنحصر البحث في أسباب ونتائج العنوسة في الدول العربية التي ما زالت (محافظة) ولا تتيح بشكل علني العلاقات خارج إطار الزواج. فلا يمكن أن نطرح هكذا مسألة في مجتمع غربي يتيح للمرأة والرجل إقامة كل أنواع العلاقات دون أي قيد أو شرط.
أسباب العنوسة
اسباب العنوسة الاجتماعية
إنّ البيئة التي نعيش فيها تلعب دورا مهما في تهيئة الظروف الملائمة للارتباط، أو للتعارف بين الجنسين، فالعيش في مناطق نائية يجعل فرص التلاقي أقلّ هذا من جهة. ومن جهة أخرى أجد أنّ طبيعة الحياة تفرض قوانين معينة تجعل فرص التعارف صعبة، ومنها العادات والتقاليد في البيئات المحافظة، والتي تخفف من التلاقي بين الجنسين، وحصول فرص الانجذاب. فتصبح الروابط تلك محكومة بشروط محددة.
قد تجعل نتائج الزواج غير مرضية بالمرة. وهنا أنا لا أدعو للانفلات من تلك الروابط الدينية والمجتمعية – الأخلاقية أبدا، بل على العكس إنّ مثل تلك المنظومات هي الخط الدفاعي الأمتن عن كل انحراف، ما المطلوب إذًا؟المطلوب الحفاظ على الجسر الأخلاقي الذي كرّسته الأديان كلها منذ وجد الإنسان على وجه البسيطة، والشرائع التي اتفق عليها البشر في كل العصور، حتى لا ينحدر الإنسان في وحل المادة.
ولكن أيضا عدم المغالاة في إضافة البهارات والمثل اللامعقولة على تلك الشرائع، فتصبح الحياة صعبة جدا. إنّ ما يحصل اليوم للأسف، هو جريمة بحق” الإنسانية” فالدين تشوه بإضافات كثيرة، جعلته مثاليا يفوق عالم أفلاطون، بينما يسمح بمرور أقبح الرذائل من تحت الطاولة. إنه”التناقض بعينه”.
كيف يمكن للفتاة المتعلمة والمحافظة، أن تمتلك خيار “الحب” وهي عاجزة عن “التفكير بحرية” فالحب يحتاج إلى جنحين وبساطة وطبيعة خلاقة. لذلك العلم أولوية لأنه هو الضمان لأبناء واعين وقادرين على الاختيار الحر الحكيم. أين” أنا”؟ الأنا ليست الأنانية ولا التشاوف،.
الأنا هي اليد الفاعلة والفكر اليقظ الذي يختار بحرية. ليس الدين هو السيف الذي قتل بل المدعين الذين نظموه على هوى أفكارهم، وليست التقاليد هي السم بل زعماء المجتمع بأطيافهم الذين دسوه في طعامنا وشرابنا. إن كل شريعة لا تؤمن السعادة والحرية هي ليست شريعة وإن كل تقليد يحكم على الفكر بالتحجر لهو حجر عثرة يجب أن يرمى به في البحر.
إن البشر هم من سنّ القوانين لتخدمهم لا لتعيق مسارهم. إن الأنبياء تلقوا الإلهام في صدورهم لينشروا السعادة ويوقظوا روح العرفان لا ليجلدوا ويخيفوا الأطفال من الله كجبار ظالم.
ربما ابتعدت قليلا عن عنواني” أسباب العنوسة الاجتماعية” لكن كل ما ذكرته سيصب هنا، لتنفتح العين الباصرة على السبب الحقيقي لتلك الظاهرة:
” ما سببه المجتمع من تحجر وتعب وإرهاق فكري لهو السبب الأكبر للعنوسة”.
أسباب العنوسة الاقتصادية
الفقر والبطالة سبب رئيسيّ قد يسبق الظروف الاجتماعية في التسبب بتلك الظاهرة، فمتى تأمنت الأموال اللازمة لبناء أسرة متكاملة أي منزل ووسيلة نقل وراتب محترم في نهاية كل شهر، أمكن لكل شاب أن يحب ويتزوج. هناك تفاوت بالطبع في الظروف الاقتصادية بين أبناء كل مجتمع، فتجد الطبقات الفقيرة، المتوسطة والأغنياء.
وفي كل طبقة تختلف شروط الزواج وكيفيته، وتتدرج القناعات على سلم المثل الشائع: “على قدّ بساطك مدّ رجليك” وهنا تقرر الفتاة، أن تسعى لتلبية طموحات مادية أعلى أو ترضى بالقليل، حسب درجة مفهومها للزواج” حب، مشاركة، مصلحة، أم فرصة للثراء!.
أسباب العنوسة النفسية
تتداخل العوامل الاجتماعية مع تلك النفسية جدا، فالمجتمع ونظرته للسيدة أو الفتاة، بدونيّة إذا تأخرت في الارتباط يُصيبها ب (فوبيا العنوسة) وهذه حالة نفسية صعبة. تبدأ تلك النظرة من داخل الأسرة، عندما تتعرض الفتاة إلى ضغط كلامي من أبيها وأمها بالمقارنة مع أقاربها أو أخواتها حتى من اللواتي ارتبطن قبلها!وهذا ما يجعل البنت تتسرع في اختيار شريك حياتها لسد النقص النفسي الذي حصل!
تداعيات خطيرة للعنوسة في بلادنا
إن حديثنا عن أسباب العنوسة (Spinsterhood) يعتبر لاشيء إذا ما قارناه بتأثيراتها ونتائجها. هذا ودعونا في المبدأ الاتفاق على (صيغة المصطلح) بحد ذاته من جديد. نعم، إن مجتمعا تنحصر علاقات أبنائه بالزواج الشرعي، سيكنى كل من لم يتزوج فيه أنه (عانس) لأنه لم يستطع (قسرا) إقامة تلك العلاقة الطبيعية البيولوجية الملحة. وقبل أن نعرض النتائج، سأطرح السؤال التالي على نفسي وعليكم؟
هل هناك أشخاص اختاروا العنوسة
الإجابة هي نعم. ولكن هؤلاء قلّة وهنا فقط يمكن أن ينزاح هذا المصطلح جانبا دون أن يعد له أي معنى (فالتفرد بالذات) أضحى خيارا نابعا من قناعة شخصية مثل:
- الرهبان والصوفيون الذين سلكوا طريق الرهبنة الروحي، وامتنعوا عن إقامة الروابط الجسدية، كنوع من أنواع الزهد والصيام الاختياري.
- أشخاص عاديون، لا يمتلكون أية رغبة تجاه الجنس الآخر لأسباب بيولوجية أو نفسية.
النتائج والتأثيرات الناجمة عن (العنوسة) القسرية
إن امتناع أي شخص عن إشباع أية حاجة غريزية عاطفية وجنسية أو كما تسمى (غريزة البقاء) لهي حرمان حقيقي يولد ألما. فالجائع الذي لا يشبع بطنه سيتضور جوعا، والظمآن سيقضي عطشا، وكذا الحال يحتاج الإنسان لإشباع غريزة مولودة فيه لا تتحقق إلا بالارتباط بالجنس الآخر.
ماذا يحصل لو حرم من الارتباط بدون خيار واعي ؟
الضغط النفسي
إن عدم إشباع الحاجات الغريزية لدى الشخص يسبب ضغطا نفسيا قويا، قد يبدأ بمجرد الحزن ويصل إلى أعلى مستويات الكآبة. فإن كان الجوع الشديد يؤدي إلى خلل في الجسم، وقد يصل بالإنسان للموت. فإن حرمان الإنسان من إشباع تلك الغرائز ينخر في الجسم والنفس معا وهنا تكمن الخطورة. يبدأ الإنسان هنا بتمويه تلك الحاجات الملحة بسبب (الخجل والخوف من الآخر ونظرته) فتترجم تلك التمويهات على شكل سلوكيات مريض ومنها : العصبية، التوتر، القلق، اضطرابات الطعام كالشراهة أو الامتناع التام الطعام، إضافة إلى اضطرابات النوم والتركيز.
تراجع الانتاج
فالشخص الذي لم يلبِ حاجاته الأساسية الملحة لن يكون قادرا على العطاء كغيره، ولو اعتبرنا أن هذا الحرمان يمكن أن يشكل طاقة تعويضية قد تولد الإبداع، فهذا لا ينطبق على الجميع وسنتكلم عنه تاليا. فالعقل اليقظ يحتاج إلى طاقة مشبعة تساعده على تأدية وظائفه.
سلوكيات سلبية وإيجابية
إن عزوف المرء عن الارتباط بسبب الظروف الخارجة عن إرادته تولد بداخله قهرا دفينا مسببا سلوكيات تتدرج من تصرفات سيئة ومؤذية لتصل إلى سلوكيات خطرة وجدا!
الغيرة والحسد
تحاول الفتاة ترميم مشاعرها المقهورة عبر بث ألفاظ معينة تنم عن غيرة وحسد ونقص لديها باتجاه الاخريات المرتبطات السعيدات برأيها واللواتي حظين بالفرصة الذهبية التي لم تنلها. فتتوجه دوما بكلمات مؤذية كأنها كتلة غضب مشحونة لتفريغ كل ما يلم بها، فتهين غيرها أو توجه للفتيات انتقادات غير بناءة ولا تمت للموضوعية بصلة.
زواج غير متكافئ
إن الفتاة التي تأخر زواجها تُعامل على أنها فرصة مناسبة لأي رجل مسن،مريض، أو يحتاج إلى عون لمتابعة حياته،أو تركته زوجته مع أطفال يحتاجون لرعاية. وهنا ومهما كان مستواها من الوعي أو الجمال والتعليم، ومهما بلغت من العمر، تراها ترضى بزواج قد لا يناسبها غالبا. ولكن سأقف عند هذا العنوان لأقول أن لكل قاعدة استثناء:
الأذى المباشر
الخرافات والشعوذة
تقع الفتيات العانسات ضحية أولئك المشعوذين الذين يوهمونهن بأن تأخر زواجهن إنما يعود لسِحر مدسوس هنا أو هناك. والفتاة هذه ولو كانت متعلمة قد تخضع غالبا لمثل تلك الأوهام لأنها تريد إيجاد مبرر يرضيها، ويشفي عقدة النقص الموجودة بداخلها التي تتمثل بأنها (غير مرغوبة ..غير جميلة…) وهنا تتفاقم المشكلة وتتعقد وتصبح مرضا بإضافة الوهم وقلة من الفتيات الواعيات اللواتي يرفضن مثل تلك الترهات.
الوحدة
عندما تفشل بعض الفتيات في مسعاها لإيجاد الحبيب أو الشريك المناسب، يمكن أن تتسلم بعد كل الانفعالات التي تصدر عنها إلى عالم الوحدة فتبدأ بالانعزال تدريجيا عن المجتمع فالأسرة حتى، فتصبح صامتة وغريبة في بيتها عن ذويها، وإذا لم تلق الدعم المناسب قد تتطور هذه الحالة وصولا إلى مرض نفسي أو جسدي.
الانتحار
بما إننا نسير تدريجيا في التأثيرات السلبية المحتملة الناجمة عن مشكلة (العنوسة) فإن غياب المراقب، وانعدام الرعاية الأسرية الداعمة لأولئك الفتيات قد تودي بهن بعد العزلة القاتلة ثم إلى اضطرابات نفسية، من الممكن أن تتفاعل مع ضغوطات أخرى مؤدية إلى الانتحار، وتلك الحالات نادرة الحدوث.
والآن وبعد عرض التأثيرات السلبية سأفند مجموعة من التأثيرات الإيجابية إنّ الإنسان الإيجابيّ من داخله، يمكنه أن يبعد عن ذاته طاقات الغضب والانتقام وكل ما ذكرناه قبل قليل من مشاعر معادية ، وأن يوقظ المشاعر الإيجابية المطلقة التي تنمي بداخله مشاعر المحبة الشاملة. هذا ويشير فرويد إلى أن (الكبت الجنسي) ضروري جدا لتعديل السلوك الجنسي وضبطه وتقنينه وتنظيمه،ومن هنا كانت هناك تأثيرات لا نستطيع إلا أن ندعوها إيجابية بل رائعة!
الأمومة
تعوض الفتاة العانس عن شعور حب الرجل في بعض الأحيان، ببث الحب هذا لأفراد أسرتها داخل المنزل فتلعب دور الأم لأخوتها لأولاد أخواتها،ولسائر أفراد الأسرة. فتشعر بسعادة تسكّن هذا الألم الخفي الذي يعتريها والذي يمكن أن يختفي تماما! فالأمومة شعور غريزي لاإرادي متفاوت النسبة بين فتاة وأخرى، يلعب السلوك والتوجه الفردي دورا في تغذيته وهنا يدخل الوعي على الدوام لبث الطاقات الإيجابية وتفعيل الفطرة الإنسانية السليمة.
الإبداع الفكري
إن الأدب والفلسفة والفكر بشكل عام يعد من أوسع وأعظم مجالات التفريغ العاطفي الإيجابي سواء بالقراءة أو بالكتابة ففي المجاليْن يمكن للإنسان أن يحول طاقاته المكبوتة إلى قدرات فكرية سامية قد تغنيه تماما عن فكرة الإرتباط، كما تمكنه من التبحر في عوالم الحب وعيش هذه المشاعر بحرية مع أبطال الروايات،وحكايا الفلاسفة، أو عبر اختراع وتصور شخصيات وحالات وإلباسهم كل ما يعترم بداخل الكاتب أو القارئ من حاجات ورغبات.
وقد أثبت العلم والطب أن اللذة تكمن في التصور قبل أن تترجم بالحس.وقد ظهرت المدارس العلاجية النفسية التي تعتمد على الدراما في علاج الكثير من الحالات. الكاتب أو القارئ يداوي جروحه ويملأ نواقصه بحبر قلمه وعبر خياله المسافر ويستطيع أن يعيش شتى الحالات، كما بإمكانه أن يعيش الحب بكل حالاته، ومع كلّ الكائنات.
الإبداع الفني
وإن كان الأدب من الفنون، فقد فندته كعنوان منفرد لأهميته، وأضيف إليه شتى الفنون : الموسيقى، الرقص، المسرح، التمثيل، الرسم… إنها وسائل فنية راقية وطرق تفريغ نفسية علاجية. إن كل فنان هو الدواء لذاته ولمن يتذوق أعماله وابتكاراته. وليس عبثا ولادة المدارس النفسية كما ذكرت قبل قليل التي تعتمد الفن كأسلوب علاج.إن الآلام كلها يمكنها أن تتبلسم عن طريق الفن، ولا عطاء خالد ولد إلا من رحم ألم عظيم.
لذا تصبح المعاناة هنا موازية للإبداع فتنتفي السلبية منها لتصبح إيجابا مطلقا، بل طاقة مولدة. وهنا لا أستطيع إلا أن أستحضر حياة الفنانين والفنانات الذين لم يستطيعوا العيش والعطاء بعيدا عن الحب.ولو كان خياليا، ولو عاش الكثيرون منهم دون زواج، وقد يقول البعض منكم أنهم عاشوا تجارب كثيرة وأقاموا علاقات عديدة.. سأقول نعم بالتأكيد.. إن كل فنان وإنسان هو حالة خاصة بكيانه وتجاربه ولا يمكن التعميم. قد يصل الفنان والقارئ والمتأمل الباحث لمرحلة يعوضه فيها فنه، واطّلاعه ونظرته العميقة عن كل ما هو حاجة بديهية، قد يخلق من الألم أملا.
الاتجاه الروحي
يسلك بعض الرجال والنساء إذا ما امتنعوا عن الارتباط مسلكا روحيا بعيدا عن المادة. وقد يجد البعض وخاصة دعاة الحسية أن في هذا المسلك مثالية مفرطة وأن له نتائج غير محمودة، الا أن التجارب أثبتت العكس، فالكثيرون ممن سلك المسلك الروحي خارج دائرة المعتقدات والمذاهب أو ضمنها، كانوا يتمتعون بصفات أخلاقية تميزهم. ويتجه هؤلاء إلى الصلاة والتعبد أو إلى التأمل أو الجانبين معا في سعي للارتقاء الروحي فوق مستوى المادة والحس.
وهنا يبرز سؤال جديد: هل يمكن لهذه المسالك التي ذكرناها من أدب وفن وتصوف وتأمل أن تلغي حاجة الحب وحاجة الارتباط الجسدي؟
الجواب مرهون بكل شخص، فالغريزة بالمبدأ لا يمكن أن تموت تماما، من الممكن أن تخفّ وتتماهى. وهنا يقرر الشخص نفسه أن يبقيها نائمة وأن يحولها إلى طاقة إبداع. أن يجد الحب بدءا من (حب ذاته) أساس كل حب. أن (يتأمل) الطبيعة وجمالها ويفرغ شحناته بالأنشطة المختلفة.
طرق تعويضية علاجية
إذا كان ولا بد أن يحرم الإنسان من تلبية احتياجاته الجسدية من الطرف الآخر بإمكانه القيام
بأنشطة مساعدة على التفريغ والتخفيف من وطأة أضرار ذلك الحرمان:
1-التأمل
وهو السّرّ والسّحر الذي يجعل كل إمكاناتك متاحة أمام ناظريك. وللتأمل طرق بسيطة غير معقدة كما يتصور البعض،لأنه ببساطة يشبه سلوكنا الفطري الخالي من التشوهات، فقد فُطر الإنسان على حب الهدوء والصفاء والأنس بالذات بدون أية تعقيدات وهذا ما يفعله التّأمّل. إنه يجعلك ترى النور ولو كنت محاطا بالظلام كما يقول جلال الدين الرومي. به تفتح بصيرتك وتعرف نفسك وتتصالح معها ومع مشاكلك في الحياة لتقبلها وتتجاوزها بمحبة.
ولدينا في مساحة وعي سلسلة خاصة بالتأمل من تقديم الأستاذ علي وهي مفيدة جدا، تستطيع أن تسمعها أو أن تسمعيها وأنت في عملك، داخل المنزل، أو أثناء المشي مثلا أو وقت الراحة والاسترخاء للدخول إلى عالمك أنت الذي لا تعرفه ربما أو لم تتعرف عليه بعد. إن التأمل يساعد “العانس” كما تمت تسميته وتسميتها أولا على تقبل هذا المصطلح.
وتقبل المشكلة رغم صعوبتها فأول طرق العلاج هو ” الاعتراف بالألم ” وتقبله، ومصالحة الذات بأنني أنا “إنسانة” تعاني من حاجات شعورية وجسدية ماسة، وغيابها يسبب لي نقصا وآلاما. بعد مرحلة القبول، تأتي مرحلة التجاوز والتمرير، فمع الوقت يعتاد الجسم هذا الاحتياج ويحاول إيجاد طرق أخرى للتفريغ . من هنا كان التأمل بوابة العلاج الكبرى.
2- الرياضة
تعتبر التمارين الرياضية على اختلاف انواعها خير منفّس للجسم والعقل على السواء فهي كالتأمل تساعد على الاسترخاء،وتنظيم التنفس وجريان الدم، ومن أهم تلك الانشطة الجري، الركض والسباحة.
3- التوجه نحو أنشطة فعالة
وقد ذكرتها في عنوان الإيجابيات، فيمكن للعازب عن الارتباط أن يفرغ إمكاناته في مجالات كثيرة فكرية وفنية واجتماعية أيضا (التّمريض- التّعليم- الجمعيّات الإنسانيّة وغيرها)
4- المسلك الروحي
وهو طريقة للتجاوز أيضا مساعدة وفعالة جدا، ففي الإنسان جانب أثيري روحي له الأثر الأكبر إذا قمنا بتغذيته جيدا نخفف من وطأة الحاجات الجسدية الملحة.
5- الصداقات
إن بناء علاقات صداقة متينة تفرغ الشحنات العاطفية وتجعل الحب يتمثل بأشكال رائعة إنسانية لها مسميات عديدة وكلها تجتمع تحت بوتقة المحبة وتبادلها. والبعض يلجأ لإقامة علاقات صداقة وحب أيضا عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي وهذا يعتبر تفريغ جيد بشرط أن يحدد الأطراف مستوى العلاقة ومداها كيما تؤدي إلى خيبات وانتكاسات جديدة.
6- التفريغ بالكتابة
ليس من الضروري أن يكون الرجل أو المرأة أديبين مثلا ليكتبوا ما يعتريهم من مشاعر! إنها استراتيجية علاجية مثل الرسم والعزف والرقص للتفريغ عن المكنونات والتخلص من الضغوط النفسية المرهقة.
خاتمة
قد يكون حبيبك كتابا، قمرا بدرا، ذكرى وصورة من الطفولة، وجه حبيب غادر، عينا والد حنون، لمسة يد أم، فلذة كبد هو كل الكون،حبيبا بعيدا لا يعرف أصلا أننا نحبه… أو خيالا نرسمه كي نسعد.الحب يا أصدقائي صدقوني هو مفتاح سعادتنا، وكاذب من يقول أنه يستطيع الاستمرار في هذه الحياة المعقدة الغريبة الجميلة دون حب! ربما فقط (هو) أي الله، وبه الكل ” المحبة الشاملة” والعطف اللامحدود.
إذا بدا كل شيء حولك مظلمًا ، انظر مرة أخرى ، قد تكون أنت النور (جلال الدين الرومي)
خاطر شعري
جواب السؤال
أنت مفتاح ذاتك وجوابٌ على السؤال:
” العنوسة أهي خيار أم واقع قاهر؟”
فإن كنت تبحث عن “الحب” جده أولا في ذاتك،
سيحبك حينها الحجر والشجر والبشر..
وارضَ فالرضى يحول الفحم إلى ألماس، والبؤس إلى سعادة
ومن خلاله ينبثق النور من قلب الظلمات.
الرضى ليس استسلاما! إنه أول خطوة على طريق الحلم والمثابرة.
وإن كان لديك جواب آخر أخبرنا عنه في تعليقك كي نعرف ما أنت.
خاطر قصير بعنوان جرح قديم
ينز الدمع في غيابك
كأنك جرح قديم
يأبى الالتئام
يعيش النبض بالوجع
بدل السلام
لولاك يا رفة القلب
يا رفة الجفن ويا رف اليمام
ما كنت أنتظر الرسائل تشيعها
إليّ أطياف الغمام
يروح الصبح كي يأتي ليلي
مفتاحه علق ببابك
كأنك جرح الصميم
يأبى الالتئام
تعزف أوتاره للمسمعِ
لحن الغرام
لولاك يا رعشة القلب
يا غربة الوطن وعودة الأحلام
ما كنت أرسم الأيام تحملها
إليّ كتائب الأوهام
ينطق الصمت كي يروي شعري
مفتاحه علق ببابك
كأنك السر العظيم
يأبى الكلام
وينز الدمع في غيابك