تتجه السياسة النقدية في الولايات المتحدة الأمريكية نحو سياسة انكماشية، حيث قام المجلس الاحتياطي الفيدرالي في منتصف شهر آذار من عام 2022 برفع سعر الفائدة على الدولار بمقدار ربع نقطة مئوية إلى نطاق يتراوح بين 0.25 % إلى 0.50%، حيث يعتبر رفع سعر الفائدة هذا هو الأول من نوعه منذ عام 2018.
وقد قال رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي غيروم باول في لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في 21 نيسان من عام 2022 “من المناسب لمجلس الاحتياطي الفيدرالي أن “يتحرك بسرعة أكبر قليلا” وسط ارتفاع التضخم والظروف النقدية التيسيرية”.
رفع سعر الفائدة على الدولار لأعلى معدل خلال العقدين الأخيرين:
حيث قام المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي يوم الأربعاء 4/5/2022 بزيادة جديدة على أسعار الفائدة بمقدار نصف نقطة جديدة، حيث تعتبر هذه الزيادة الأولى للمجلس الفدرالي منذ عام 2000 ليصبح النطاق الخاص بالفائدة يتراوح بين 0.75% و1%.
وتمثل هذه السياسة سياسة نقدية انكماشية بعد سياسة توسعية وتيسير كمي التي تم اتباعها في الفترات الأخيرة، ولا سيما خلال فترة جائحة كورونا، حيث تؤدي هذه السياسة إلى رفع تكاليف الاقتراض، الأمر الذي يقود إلى تقليل الأموال المطروحة في الأسواق وتجفيف السيولة النقدية، بهدف تقليل التضخمالذي وصل إلى مستويات قياسية في الولايات المتحدة الأمريكية خلال هذه الفترة لم يبلغها خلال آخر 40 عام مضى، حيث وصل معدل التضخم إلى حوالي 7.9 في بداية عام 2022 في مقابل المعدل المستهدف من التضخم من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والبالغ 2%.
ومن جهة أخرى تسعى أمريكا إلى انتهاج سياسة تقشفية في الجانب المالي من خلال تخفيض حجم النفقات حيث تستهدف سقف شهري لا يتجاوز 96 مليار دولار أمريكي.
جاءت هذه الإجراءات بعد سلسة من الأحداث التي دفعت بهذا الاتجاه، أهمها جائحة كورونا وقيام الحكومة الأمريكية بالتوسع في الانفاق للعاطلين عن العمل ودعم المؤسسات المتوقفة عن العمل، ولاحقاً لوقف الحظر الذي تم اتخاذه أثناء فترة الجائحة، استمر هذا الدعم للعاطلين عن العمل، الذين وجدوا أنفسهم يحصلون على دخل دون عمل مقابل، مما أدى إلى زيادة الطلب الكلي، الأمر الذي أسهم في رفع مؤشرات أسعار نفقات الاستهلاك الشخصي في الولايات المتحدة، فضلاً عن الأزمة الأوكرانية الروسية التي أدت إلى حدوث حالة من التضخم العالمي وخاصة في المواد البترولية والغذائية، كل ذلك دفع الولايات المتحدة باتجاه انتهاج سياسة انكماشية.
أثار رفع سعر الفائدة على الدولار على الدول العربية:
لا ينحصر تأثير رفع سعر الفائدة على الدولار على الداخل الأمريكي، وإنما يمتد إلى مختلف دول العالم ولا سيما الدول النامية وهذا التأثير سيكون سلبي على هذه الدول، ومن بين هذه الدول: الدول العربية وفي هذا الصدد نميز بين تلك الدول النفطية وتلك غير النفطية.
وبشكل عام نستطيع القول بأن رفع أسعار الفائدة على الدولار، يجعله أكثر جاذبية مقارنة بباقي العملات بالنسبة للمستثمرين في الأموال الساخنة، بمعنى يزداد الطلب على الدولار مقابل العملات الأخرى وهو ما يؤدي إلى انخفاض قيمة هذه العملات مقابل الدولار، الأمر الذي ينجر إلى باقي النواحي الاقتصادية من التضخم داخل بلد العملة، فضلاً عن زيادة تكلفة الاستيراد
الأثر على الدول النفطية:
في الواقع فإن الدول النفطية ولاسيما الخليجية تستطيع أن تستفاد من ارتفاع أسعار النفط الذي سينتج عن رفع سعر الفائدة على الدولار وتبعاته، فضل عن حجم الاحتياطيات المالية الكبيرة من الدولار، ناهيك عن أن جميع دول الخليج باستثناء الكويت يربطون عملاتهم مباشرة بالدولار، ذلك أن الكويت تربط عملتها بسلة من العملات من ضمنها الدولار.
ومع ذلك نجد أن دول الخليج مثل السعودية وقطر والإمارات العربية والمتحدة من خلال البنوك المركزية لديها قامت برفع أسعار الفائدة لديها وبنفس النسبة التي رفع بها الاحتياطي الفدرالي الأمريكي، في حين قام البنك المركزي في الكويت برفع سعر الخصم (بواقع ربع نقطة مئوية) مما يسهم في تخفيض حركة الخصم للأوراق المالية للتقليل من أثر انخفاض السيولة الذي سينتج عن السياسة الانكماشية الأمريكية.
وبالمحصلة نستطيع القول بأن الدول الخليجية وإن كان أثر رفع سعر الفائدة على الدولار منخفض نوعاً ما عليها، نتيجة احتياطاتها المالية الضخمة وإمكانية تعويض نقص السيولة من خلال ارتفاع أسعار النفط، إلا أنها قامت بهذا الاجراء كنوع من الوقاية من أي تبعات لاحقة غير مدروسة.
أثار رفع سعر الفائدة على الدولار على الدول غير النفطية:
يختلف الأمر بالنسبة للدول غير النفطية، حيث نجد أن معظم هذه الدول لا تمتلك الاحتياطات المالية من القطع الأجنبي الذي يمكن أن يقيها أثر ارتفاع سعر الفائدة على الدولار، كما أن ارتفاع سعر النفط نتيجة انخفاض سعر صرف عملتها مقابل الدولار سيجعل الأثر أكبر.
كما أن معظم هذه الدول مثقلة بديون سيادية وقروض من صندوق النقد الدولي، وبالتالي فإن رفع سعر الفائدة سينعكس في ارتفاع تكلفة الاقتراض والذي تلجأ إليه هذه الدول لسداد قروض سابقة وهو ما يعني زيادة أعباء الدين.
ومن جهة أخرى فإن رفع سعر الفائدة كخطوة مشابهة لخطوة دول الخليج، سيؤدي إلى رفع تكلفة الاقتراض في الداخل مما يؤدي إلى إحجام المستثمرين عن الاقتراض بتكلفة مرتفعة مما يؤدي إلى انخفاض حجم الاستثمار وهو ما يقود إلى زيادة معدل البطالة وانخفاض معدل النمو الاقتصادي، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار جاذبية الاستثمار بالدولار لاحقاً لرفع سعر الفائدة على الدولار بالنسبة للمستثمرين في الأموال الساخنة فإن عدم رفع سعر الفائدة في هذه الدول ليكلفها خسارة احتياطاتها من القطع الأجنبي ولا سيما الدولار المنخفضة أصلاً، وبالتالي فعلى هذه الدول أن تفاضل بين هذين الأثرين.
مصر والمشاكل المالية والاقتصادية المقبلة بعد رفع سعر الفائدة على الدولار:
بدراسة الواقع الاقتصادي في مصر، نجد أن حجم الدين الخارجي بلع 409.5 مليار دولار أمريكي بحسب بيانات صندوق النقد الدولي، كما نجد أن مصر وصلت إلى الحد الائتماني الأعلى الذي يمكن منحها إياه من صندوق النقد الدولي، ما يعني ضرورة القيام ببعض الترتيبات لتتمكن من الحصول على أي قرض لاحق، وقد تشمل هذه الترتيبات خصخصة بعض الجهات العامة أو أي شروط اقتصادية من حيث إعادة الهيكلية الاقتصادية، كما قد يكون هناك بعض الابتزاز السياسي أيضاً.
إن تعويم العملة هي من المطالب الأساسية التي تكون لدى صندوق النقد الدولي، والذي قد لا يكون في مصلحة مصر في ظل الظروف الحالية.
تسعى مصر إلى الحصول على بعض المساعدات من دول الخليج للمساهمة في حل أزمتها المالية، ولا سيما في ظل حجم الانفاق الكبير الذي تنتهجه مصر في الآونة الأخيرة في إعادة بناء البنية التحتية لديها، والمشاريع الحكومية الضخمة مثل العاصمة الإدارية الجديدة، إن مثل هذه المساعدات لاحقاً لرفع سعر الفائدة على الدولار غير وارد.
وبالمحصلة نرى أن البنك المركزي المصري سيضطر إلى رفع سعر الفائدة في مصر، لتجنب الآثار السلبية الكبيرة في ظل المديونية الكبيرة في مصر، ورغبته بعدم هروب رؤوس الأموال في البلاد نتيجة إغراءات الاستثمار بالدولار، وستواجه مصر مشكلة انخفاض حجم النشاط الاقتصادي لاحقاً لهذا القرار، وقد يكون توفير تسهيلات ائتمانية بفائدة مدعومة مخرجاً لهذه المشكلة لتوجيه أنواع الاستثمار، حيث يتم رفع سعر الفائدة على الإيداع وهو ما يعني بالتالي على رفع أسعار الفائدة على الاقتراض، أما تلك الاستثمارات التي يرغب الاقتصاد بالتوجه نحوها ستكون بفائدة منخفضة حيث تتحمل الدولة الفرق بين تكلفة الاقتراض الفعلية وتلك الفائدة المخفّضة التي يحصل عليها المستثمر طالب التسهيل الائتماني، إلا أن مثل هذا الإجراء لا يمكن أن يمتد لفترات طويلة.
العالم يتجه نحو ركود اقتصادي قريب:
إن السياسة الانكماشية التي تقوم بها الإدارة الأمريكية بهدف الوصول إلى معدل التضخم المستهدف (2%) لا بد وأن يقود إلى حالة من الركود في نهاية الأمر.
حيث أن الفدرالي الأمريكي حسب تصريحات المسؤولين يتجه إلى مزيد من رفع سعر الفائدة على الدولار، ومن المتوقع أن يقوم الاحتياطي الأمريكي برفع سعر الفائدة على الدولار مرة أخرى في قرارات قادمة، خلال عامي 2022 و2023 لتصل الفائدة إلى ما يقارب 3.50% حتى عام 2023
وبهذا الصدد صرح نائب رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي سابقا روجر فيرجسون لشبكة ((سي إن بي سي)) في مقابلة يوم الاثنين: “إن حدوث ركود في هذه المرحلة أمر لا مفر منه تقريبا“.
وبذلك نكون قد أحطنا بآثار رفع سعر الفائدة على الدولار، وعليه نجد أننا نتجه إلى ركود قادم لا محال، لن تطول المدة قبل الوصول إلى هذه اللحظة في ظل هذه السياسة المتبعة، ومن المتوقع أن تكون بداية هذا الركود في الربع الأخير من هذا العام 2022، وبحد أقصى خلال الربع الأول من العام القادم 2023