يستخدم القائمين على السياسة النقدية في أي دولة عدد من المصطلحات الاقتصادية التي قد تكون غير واضحة بشكل كامل للجمهور غير المهتمين والمتخصصين بالجانب الاقتصادي، ما يؤدي إلى عدم فهم مراد القائمين على السياسات النقدية عند أي تصريح، ومن هذه المصطلحات التي تحتاج إلى شرح مصطلح تعويم العملة، فما هو تعويم العملة (currency float) وكيف يتم وما هي الأسباب التي دعت إلى نظام الصرف هذا، نستعرض وإياكم هذه المواضيع ليصبح هذا المصطلح واضح المعالم.
مفهوم تعويم العملة:
هو أحد أنظمة الصرف التي قد تتبعها إحدى الدول والذي يقوم على جعل سعر صرف العملة المحلية حراً دون أي تدخل مباشر من قبل السلطات النقدية، بحيث يصبح سعر صرف العملة يتحدد بناءً على أليات العرض والطلب على العملات في الأسواق الدولية، وبالتالي يصبح سعر صرف العملة المحلية متغير مقابل العملات الأجنبية كلما تغير حجم العرض والطلب على العملة.
ووفقاً لهذا المفهوم لا يقوم المصرف المركزي بتحديد سعر ثابت للعملة المحلية مقابل العملات الأجنبية، وإنما تؤثر الحركة التجارية من استيراد وتصدير، والمالية من تحويلات وغيرها، هي المؤثر الحقيقي في تحديد سعر صرف العملة المحلية، بحيث تحكم آليات العرض والطلب ذلك الأمر، وتصبح العملة كأي سلعة ترتفع قيمتها عند زيادة الطلب عليها وتنخفض قيمتها عند زيادة العرض منها، ويمكن أن يتغير هذا السعر عدة مرات خلال اليوم الواحد.
أنواع تعويم العملة:
إن نظام الصرف الذي يقوم على تعويم العملة يمكن أن يأخذ أحد الشكلين التاليين:
- التعويم الخالص: هو ذلك النظام الذي تمتنع الدولة ممثلة بالسلطة النقدية عن أي تدخل في تحديد سعر صرف العملة المحلية سواءً بشكل مباشر أو غير مباشر، حيث تترك لآلية العرض والطلب وحدها تحديد هذا السعر دون أي توجيه، وهو ما يعرف أيضاً بنظام التعويم الحر، ومن أمثلة الدول التي تتبع مثل هذا النظام (الجنيه الإسترليني في إنكلترا، والفرنك الفرنسي سابقاً، والدولار في الولايات المتحدة الأمريكية).
- التعويم الموجه: يقوم هذا النظام لسعر الصرف على ترك آلية العرض والطلب لتحدي سعر الصرف إلا أن السلطة النقدية لا تعطي الحرية الكاملة لذلك الأمر دون تدخل، حيث يتدخل المصرف المركزي حسب الحاجة والخطط الاستراتيجية في هذا المجال للتأثير في حجم العرض والطلب على العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية، وذلك لتوجيه سعر الصرف للعملة المحلية وفق ما تفتضيه الحاجة النقدية في الدولة، حيث يعرف نظام سعر الصرف هذا أيضاً بالمُدار أيضاً، وعادة ما يكون لدى تلك الدول النامية التي تقوم بربط عملتها بعملة أجنبية مثل الدولار الأمريكي أو بسلة من العملات الأجنبية أو حقوق السحب الخاصة في صندوق النقد الدولي.
نشأة نظام صرف تعويم العملة:
إن فكرة تعويم العملة بدأت بعد الآثار التي نشبت بعد انهيار اتفاقية بريتون وودز التي قامت عام 1944، والتي نصت على التزام الولايات المتحدة الأمريكية بتحويل جميع الدولارات المتداولة في العالم إلى ذهب وفق السعر الذي حددته (كل 35 دولار أمريكي يقابل اوقية من الذهب)، إلا أن تراجع الولايات المتحدة الأمريكية عن التزامها هذا عام 1971 وانهيار اتفاقية بريتون وودز، أدى إلى تراجع قيمة الدولار الأمريكي مقابل الذهب من جهة، ومن جهة أخرى عدم قدرة القوى الاقتصادية على الحفاظ على سعر صرف ثابت مقابل الدولار، مما أدى إلى توجّه هذه القوى إلى البحث عن نظام سعر صرف آخر من خلال تحرير سعر الصرف.
حيث أشار أصحاب النظرية النقدية المؤيدون لنظام صرف تعويم العملة من أمثال ميلتون فريدمان، إلى أن تعويم العملة سيكون له آثار إيجابية على النمو الاقتصادي وضبط التضخم وسعر الصرف، الأمر الذي يقود في نهاية المطاف إلى تحقيق التوازن الاقتصادي بشكل تلقائي، مستندين في استنتاجهم هذا على كفاءة السوق أي أن العرض والطلب سيتساوى عند نقطة ستقود إلى التوازن الاقتصادي، إلا أن التجربة أثبتت أن غياب الرقابة وضبط الأسواق كان لها أثار سلبية على عملية الوصول إلى التوازن الاقتصادي المنشود، وليس أكثر من الأزمات المالية والاقتصادية التي ضربت الأسواق المالية العالمية آخرها كان الأزمة المالية العالمية عام 2008، دون أن ننسى أثار أزمة كوفيد 19 التي أدت إلى أدت إلى قطع سلسلة التوريدات وأدت إلى ارتفاع التضخم في مختلف دول العالم.
وينطلق تحليل المؤيدون لنظام تعويم العملة من أن وجود عجز في الميزان التجاري سيؤدي إلى زيادة الطلب على العملات الأجنبية، مما يؤدي إلى زيادة العرض من العملة المحلية وبالتالي انخفاض قيمتها مقابل العملات الأجنبية، الذي يمثل ميزة تنافسية نتيجة انخفاض الأسعار إذا ما قورنت بالعملات الأجنبية وهو ما يؤدي إلى زيادة التصدير وانخفاض الواردات، الأمر الذي يقود في نهاية المطاف إلى عودة التوازن للميزان التجاري، ويحدث العكس في حال وجود فائض في الميزان التجاري.
اقرأ أيضا ما هو الذهب الأسود الضائع في سورية
أثار تعويم العملة على اقتصاد الدولة التي تتبع هذا النظام:
إن الحديث عن آثار تعويم العملة يتطلب التمييز بين حجم هذه الآثار في الدول الصناعية المتقدمة عنها في الدول النامية.
وحيث أن تعويم العملة يجعل سعر صرف العملة المحلية يتحدد وفقاً لقوى العرض والطلب، فإن ذلك يجعل من هذا السعر متغير باستمرار، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار الميل الحدي للادخار والميل الحدي للاستهلاك والاستثمار في البلد المدروس، والتي تختلف باختلاف التقدم الاقتصادي والتقني والصناعي، ناهيك عن القدرة الاستيعابية للاقتصاد الوطني، فإن ارتفاع سعر صرف العملة المحلية نتيجة زيادة الطلب على هذه العملة في الأسواق النقدية وفي عمليات الفوركس.
أي سيجعل سعر صرف هذه العملة يرتفع بمعنى أن القيمة التعادلية للعملة المحلية مقابل العملات الأجنبية مرتفعة، الأمر الذي ينعكس على الاقتصاد الحقيقي والمتمثل بسعر السلع والخدمات في هذا البلد، وهو ما يقود فقدان رغبة المستوردين الأجانب بالاستيراد من البلد موضوع الدراسة نتيجة ارتفاع أسعار سلع هذا البلد مقارنة بالعملة الأجنبية، ما يعني انخفاض التصدير من هذا البلد.
ومن جهة أخرى فإن ذلك سيؤدي إلى تحول المستثمرين المحليين للاستثمار في الخارج نتيجة لإمكانية استبدل القطعة النقدية المحلية بعدة قطع نقدية من العملة الأجنبية الذي يرغبون بالاستثمار به، الأمر الذي يقود في نهاية المطاف إلى زيادة الاستيراد وانخفاض التصدير في هذا البلد من جهة، ومن جهة أخرى انخفاض حجم الاستثمار المحلي ما يؤدي إلى تراجع معدلات النمو وارتفاع البطالة واختلال الميزان التجاري، الذي يعود لاحقا إلى وضع التوازن نتيجة كفاءة السوق وفقاً لآراء مؤدي النظرية النقدية التي تدعو لتعويم العملة، وفي الحالة المعاكسة يحدث العكس.
التوازن الضائع عند تعويم العملة:
لاحقاً لاتباع العديد من البلدان المتقدمة والنامية لنظام تعويم العملة، يرى الكثير من الباحثين عدم تحقيق التوازن المنشود، ويعود ذلك في الحقيقة إلى افتراض خاطئ يتمثل بكفاءة السوق، حيث نجد أن لدى بعض الدول التي اتبعت هذا النظام اختلال اقتصادية تتمثل بعجز تجاري هيكلي منذ عدة عقود كالولايات المتحدة الأمريكية، ذلك أن أسعار الصرف ابتعدت كثيراً عن المستوى المفترض أن يقود إلى التوازن.
ومن جهة أخرى فإن تعويم العملة كنظام لسعر الصرف الذي ينبغي أن يقود إلى توازن على مستوى العلاقات التجارية الدولية، جعل نتيجة عدم الاستقرار النقدي الناتج عن التغير المستمر في سعر الصرف وبمعدلات مختلفة ليس لأسباب نقدية عقلانية وإنما لأسباب نفسية للمضاربين العالميين، العلاقات التجارية تعاني من تقلبات كبيرة.
في الواقع فإن تعويم العملة كنظام للصرف يحمل في طياته العديد من السلبيات نتيجة الافتراضات التي يقوم عليها، إلا أن التطبيق العملي لهذا النظام أبرز ضرورة تدخل السلطات النقدية للحيلولة دون ابتعاد سعر الصرف عن المستوى الذي يمكن عنده العودة إلى حالة التوازن وفقاً لمقتضيات الحاجة الاقتصادية للبلد المدروس والذي يعتمد نظام الصرف هذا.
1 thought on “ما هو تعويم العملة كنظام لسعر الصرف”
Comments are closed.