مرت الاقتصادات وخاصة المتقدمة بعديد المشكلات الاقتصادية عبر الزمن، إلا أن النظريات الاقتصادية المختلفة كانت تتصدى لهذه الظواهر بالتحليل واجتراع الحلول، لكن الظاهرة الغريبة التي تم تعهدها تلك الاقتصاديات بدأت في الظهور في بداية السبعينيات، والتي تمثلت في تعايش كل من البطالة والتضخم معاً في نفس الوقت، وهو ما بات يعرف بالركود الاقتصادي.
حيث شهدت تلك الاقتصادات تدهوراً في معدلات النمو الاقتصادي، وزيادة في معدلات البطالة والإفلاس، مصحوباً بمعدلات مرتفعة من التضخم، ومنذ ذلك الحين دخلت النظرية الاقتصادية في ارباك شديد واهتزت الثقة بالمعتقدات التي كانت تروج لها سابقاً.
وقد عملت المدارس والتيارات الاقتصادية المختلفة على طرح تفسيرات متباينة فيما بينها تمحّض عنها كماً كبيراً من النظريات، إلا أن أياً منها لم تصل إلى سبب أو تفسير واضح، ذلك أن الركود التضخمي كظاهرة لا زال يطفو بين الفترة والأخرى وفي مختلف الدول.
مفهوم الركود التضخمي:
إن الخوض في مفهوم الركود التضخمي يتطلب معرفة كل من مفهوم التضخم والركود والبطالة، حيث يعرّف التضخم بأنه زيادة مستمرة ومتواصلة في المستوى العام للأسعار، في حين يُنظر إلى الركود على أنه انخفاض في الطلب الكلي الفعلي يؤدي إلى تباطؤ في تصريف السلع والمنتجات في الأسواق ومن ثم انخفاض تدريجي في الأرباح وعدد العمال والوحدات الإنتاجية وتكديس في المعروض والمخزون من السلع والبضائع الأمر الذي يترتب عليه تفشي ظاهرة عدم انتظام المتعاملين في النشاط الاقتصادي في سداد التزاماتهم المالية في مواعيدها ومن ثم تكون النتيجة شيوع ظاهرة الإفلاس والبطالة. للمزيد اقرأ معنى التضخم الاقتصادي.
أما البطالة فتعرّف على أنها الحالة التي يبقى فيها عدد من الناس في المجتمع بلا عمل أو وظيفة، على الرغم من سعيهم الجاد في البحث عن عمل أو وظيفة، لكن دون جدوى، أو على الأقل أنهم يقومون بأعمال تستغرق جزءاً فقط من طاقتهم أو وقتهم، مع الإشارة إلى أنواعها المختلفة فهي إما احتكاكية وهيكلية وموسمية.
وبعد أن تعرفنا إلى هذه المفاهيم الثلاث بات بإمكاننا بيان مفهوم الركود التضخمي.
حيث يعرف الركود التضخمي بأنه تعايش التضخم، أي الارتفاع المستمر في الأسعار مع تزايد البطالة، بمعنى ارتفاع حجم ومعدل العمال العاطلين والراغبين في العمل والباحثين عنه دون جدوى.
كما يمكن النظر إلى الركود التضخمي على أنه ذلك الوضع الذي يتزامن فيه وجود معدلات مرتفعة للتضخم والبطالة في آن واحد، وبالتالي يمكن النظر إلى الركود التضخمي على أنه الحالة التي يكون فيها الارتفاع المستمر في المستوى العام للأسعار المرافق للبطالة المتزايدة، وانخفاض مستويات الناتج القومي ومعدلات نموه خلال فترة زمنية معينة.
قياس الركود التضخمي:
إن عملية قياس الركود التضخمي إنما تتم من خلال مؤشر مركب اعتمده الاقتصاديون في سبيل ذلك، حيث يتكون هذا المؤشر من مجموع معدل التضخم ومعدل البطالة، ويمكن التعبير عن مؤشر الركود التضخمي كما يلي:
معدل الركود التضخمي = معدل التضخم + معدل البطالة
وعليه، يرى بعض الاقتصاديين إن اقتصاد دولة ما يعاني من ركود تضخمي في حالة تجاوز معدل الركود التضخمي نسبة 8% بشرط تصاعد كل من معدل التضخم والبطالة، إلا أنه وبالرغم مؤشر الركود التضخمي هذا يعتبر جيد إلا أن ربطه بنسبة 8% يثار حولها عديد الإشكاليات، فعلى سبيل المثال فقد يتجاوز مؤشر الركود التضخمي هذه النسبة في حين يبقى معدل التضخم فقط أو معدل البطالة فقط عند 4%.
ففي هذه الحالة لا يمكن القول بأن اقتصاد الدولة يعاني من ركود تضخمي، وعليه يجمع الاقتصاديون على أن تجاوز مؤشر الركود التضخمي لهذه النسبة مع تصاعد كل من معدل التضخم ومعدل البطالة، فإننا نستطيع القول بأن ذاك الاقتصادي يعاني من ظاهرة الركود التضخمي.
ذلك أن معدل البطالة عند 4% يعتبر معدل طبيعي، حيث يمكن ارجاعه إلى وجود بطالة احتكاكية، كما أن معدل التضخم عند 4% لا يعني بالضرورة وجود حالة من التضخم التي قد تشكل خطراً على الاقتصاد.
وبالمحصلة فإن الجزم بوجود ركود تضخمي في اقتصاد ما، مرهون بقدرة هذا الاقتصاد على تحمل الضغوط التضخمية أو أعباء البطالة.
دلالات وجود ركود تضخمي لدى اقتصاد ما:
يوجد عديد المظاهر التي تشير إلى حالة وجود ظاهرة الركود التضخمي لدى أي من الدول نستطيع عرضها كما يلي:
1- تراجع معدلات النمو الاقتصادي:
يعدّ تراجع معدلات النمو الاقتصادي أحد الدلالات الهامة على وجود ركود تضخمي، حيث نستطيع القول إن انخفاض معدلات النمو الاقتصادي بدأت في الدول الرأسمالية التي عانت من الركود التضخمي في بداية السبعينيات، بعد مرحلة من الانتعاش الاقتصادي لتك الدول.
فقد حققت هذه الدول في تلك الفترة معدلات نمو مرتفعة لم تلبث أن بدأت بالتراجع بشكل كبير، فعلى سبيل المثال تراجع معدل النمو الاقتصادي في اليابان من 9.9% في عام 1973 ليصبح 1.8% في عام 1974، ليعاود الانخفاض إلى 1% في عام 1975، وفي فرنسا أيضاً انخفض معدل النمو الاقتصادي من 5.4% إلى 3.1% ثم 0.3 لنفس الأعوام.
2- ارتفاع المستوى العام للأسعار بشكل مستمر:
يعتبر التضخم الاقتصادي من أكثر الظواهر الاقتصادية التي تصيب الاقتصادات المختلفة، وبدأت هذه الظاهرة لدى الدول الرأسمالية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وزادت حدتها في السبعينيات والثمانينات والتسعينات.
فقد بلغ التضخم الاقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكية 10%، أما في اليابان فقد بلغ 24.5% في ام 1974، وكذلك في بريطانيا بلغ معدل التضخم في عام 1973 نسبة 9.1% وتضاعف إلى 16% في عام 1974، أما فرنسا فقد بلغ معدل التضخم فيها 7.3% في عام 1973، ووصل إلى 13.7% في عام 1974.
3- تراجع معدلات الأرباح بشكل مستمر:
تعتبر معدلات الأرباح المحرك الرئيس للتراكم الرأسمالي والتوسع الإنتاجي، في حين أن تراجع هذه المعدلات يؤدي إلى حالة معاكسة، وإن تحقيق معدلات جيدة من الأرباح ينطلق من استغلال العمالة بالشكل الأمثل، واتسلع السوق، ومعدلات الضرائب المفروضة على الأرباح، ومعدل نمو الإنتاجية، فضلاً عن التطور التكنولوجي واستخدامه في العملية الإنتاجية.
وإن التراجع المستمر في الأرباح يمثل أحد دلائل المعاناة من الركود التضخمي، فعلى سبيل المثال كانت أرباح الشركات البريطانية بين عامي 1950-1954 حوالي 25.2%، وقد انخفض هذا المعدل إلى 12.1% في عام 1970، أما في الولايات المتحدة الأمريكية فقد تراجعت معدلات الأرباح من 8.6% في بداية الخمسينات إلى 5.4 في عام 1973.
4- ارتفاع معدلات البطالة:
تعود البطالة بشكل أساسي إلى قصور الطلب الكلي وما يستتبع ذلك من نتائج، وبالتالي فإن المتغير الاقتصادي الذي يمكن من خلاله التحكم في مستوى التوظيف بصورة فعّالة هو مستوى الانفاق الكلي.
وعادة ما تكون مشكلة البطالة مشكلة دورية قصيرة الأجل، إلا أنها غدت مشكلة هيكلية طويلة الأجل مع بداية السبعينات، فقد بلغ معدل البطالة في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1980 7% ليصل هذا المعدل إلى 9% في عام 1982، حيث فقد حوالي 2 مليون أمريكي وظائفهم، أما في بريطانيا فقد أعلنت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في تقريرها نصف السنوي أن هناك حوالي 3 ملايين عاطل عن العمل في عام 1982 في بريطانيا.
كما أن هناك العديد من الدلالات الأخرى التي يمكن أن تشير إلى وجود حالة الركود التضخمي أهمها:
5- تراجع معدلات نمو الإنتاجية.
6- انخفاض معدل تكوين رأس المال.
7- تدهور معدلات استغلال الطاقة الإنتاجية.
8- نمو العجز في الموازنة.
وعليه يمكن القول إن اجتماع عدد من هذه الدلالات سويةً في اقتصاد ما يشير إلى وجود حالة من الركود التضخمي.
وانطلاقاً مما سبق بدأت المدارس الاقتصادية المختلفة تحليلاتها حول الركود التضخمي، ومنهم من وجد في هذه الظاهرة وسيلة وفرصة للهجوم على التحليل الكينزي الذي كان سائد في تلك الفترة من سبعينات القرن الماضي، كما دافع الكينزيون عن آرائهم في وجه هذا الهجوم.
وقد قدمت كل من هذه المدارس تصوراتها حول ظاهرة الركود التضخمي، إلا أن أياً منها لم يرقى لمستوى إيجاد الحلول الفعلية لهذه الظاهرة، ويبقى الركود التضخمي إحدى أكثر المشكلات التي تصيب مختلف الاقتصاديات المتقدمة منها والنامية، ولابد من إعمال البحث لإيجاد انجع الحلول للتصدي لهذه المشكلة الاقتصادية.
الركود التضخمي، التاريخ يعيد نفسه:
تشبه المرحلة الراهنة سبعينيات القرن العشرين في ثلاثة جوانب رئيسة، هي:
- التعطل المستمر في جانب الإمداد الذي يذكي التضخم، المسبوق بفترة طويلة من تطبيق السياسات النقدية التيسيرية بدرجة كبيرة في الاقتصادات المتقدمة الكبرى،.
- وتوقعات ضعف النمو.
- مواطن الضعف التي تواجهها اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية فيما يخص تشديد السياسة النقدية التي ستكون ثمة حاجة لها لكبح جماح التضخم.
ومع ذلك، تختلف المرحلة الحالية المستمرة أيضاً عن سبعينيات القرن الماضي في عدة أبعاد، وهي:
- قوة الدولار، وهو ما يختلف اختلافاً صارخاً عن ضعفه الشديد في سبعينيات القرن العشرين.
- وانخفاض نسبة الزيادة في أسعار السلع الأولية بشكل أكبر.
- وقوة الميزانيات العمومية للمؤسسات المالية الكبرى بشكل عام.
- بيد أن الأمر الأهم هو أنه على عكس سبعينيات القرن العشرين، تمتلك البنوك المركزية في الاقتصادات المتقدمة والعديد من الاقتصادات النامية الآن تكليفات واضحة لاستقرار الأسعار، وخلال العقود الثلاثة الماضية، حققت تلك البنوك سجل أداء قوياً وموثوقاً في الوصول إلى أهدافها المتعلقة بالتضخم.
ويُتوقع أن يتراجع التضخم العالمي في العام القادم، لكنه سيبقى على الأرجح أعلى من أهداف التضخم في الكثير من الاقتصادات.
وفي حال بقي التضخم مرتفعاً، فإن تكرار قرارات فترة الركود التضخمي السابقة يمكن أن يُترجم إلى هبوط حاد في النشاط الاقتصادي العالمي جنباً إلى جنب مع أزمات مالية في بعض اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية.
وتعقيباً على هذه الأوضاع، قال رئيس البنك الدولي ديفيد مالباس: “توجه الحرب الدائرة في أوكرانيا، وحالات الإغلاق في الصين، وما تشهده سلاسل الإمداد من اضطرابات، ومخاطر الركود التضخمي ضرباتٍ شديدةً إلى النمو العالمي؛ ومن ثم سيصعب على كثير من البلدان تجنب مخاطر الركود. وتتطلع الأسواق إلى استئناف العمل من جديد، وبالتالي من الضروري تشجيع الإنتاج وتجنب فرض القيود التجارية، وثمة حاجة إلى إجراء تغييرات في السياسات المالية والنقدية والمناخية وسياسة الديون وذلك لمجابهة سوء تخصيص رأس المال وعدم المساواة.” للمزيد يمكن الاطلاع على تقرير البنك الدولي بخصوص الركود التضخمي في عام 2022 والتوقعات الخاصة بشأنه مستقبلاً.
وعليه، يبقى الركود التضخمي من المشكلات الاقتصادية التي تستمر بالظهور في مختلف الاقتصادات النمية والمتقدمة، حيث لم تثمر أياً من السياسات المُقدمة من المدارس الاقتصادية في اجتراع الحلول المناسبة لمثل هذه الظاهرة الخطيرة.
ويبقى الركود التضخمي كابوساً مرعباً لأي اقتصاد مهما كانت درجة تقدمه.
المراجع:
- معروف، هوشيار، تحليل الاقتصاد الدولي، الطبعة الأولى، عمان – الأردن، دار جرير للنشر والتوزيع، 2006.
- الدباغ، أسامة، الجومرد، أثير. المقدمة في الاقتصاد الكلي، عمان الأردن، دار المناهج للنشر والتوزيع، 2003.
- الشمري، خالد، البياتي، طاهر. مدخل إلى علم الاقتصاد: التحليل الجزئي والكلي، الطبعة الأولى، عمان –الأردن، دار وائل للنشر، 2009.
- عبادي، بتول. التضخم الركودي لبدان متقدمة مختارة للمدة (1970-2004). كلية الإدارة والاقتصاد. جامعة القادسية. 2006.
- تقرير البنك الدولي الآفاق الاقتصادية العالمية حول الركود التضخمي حزيران 2022
2 thoughts on “الركود التضخمي الكابوس الاقتصادي المرعب”
Comments are closed.