يعتبر مفهوم المصارف التجارية من أهم المفاهيم في العصر الحديث، لما لهذه المؤسسات من أهمية بالغة على اقتصادات الدول المختلفة، ويمكن القول إن ظهور هذه المؤسسات كان العامل الرئيس في نمو التجارة العالمية من جهة، والأداة الأهم التي استخدمتها السياسات الاقتصادية لتطبيق سياساتها النقدية بشكل رئيسي من جهة أخرى.
فكيف ظهرت هذه المصارف وكيف تطورت وما هي أهميتها وما الدور الاقتصادي المنوط بها القيام به؟ ذلك أن مفهوم المصارف التجارية وما يمكن أن تقوم به للاقتصاد من الأبحاث التي شغلت وما تزال تشغل بال أغلب الباحثين والمفكرين الاقتصاديين.
نشأة ومفهوم المصارف التجارية:
يعتقد الكثير من الباحثين المصرفيين أن مفهوم المصارف التجارية يعود إلى القرن الثاني عشر أين ظهر مفهوم المصارف التجاري في أوروبا، بيد أن الوقائع التاريخية المثبتة تثبت أن مفهوم المصارف التجارية نشأ في تاريخ سابق لذلك بكثير.
وإن كان المفهوم المصرفي الذي ظهر في ذلك التاريخ لا يمثل مفهوم المصارف التجارية الحالي، إلا أنه كان أساس للعمل المصرفي ومهنة الصيرفة.
حيث يعتبر مصرف انشر في مدينة أور في المملكة البابلية في عام 2000 قبل الميلاد أول مصرف في التاريخ، ثم جاء حمورابي ومبادئه الخاصة بتنظيم عمل الصيرفة وآليات الإيداع والائتمان والفائدة، والتي تعتبر أقدم معايير مصرفية في العالم وذلك في عام 1675 قبل الميلاد وذلك في شريعة حمورابي في المواد من 122 إلى 125.
ويمكن القول بأن هذه المنظمات أو المؤسسات التي تم انشاءها في الألف الأولى والثانية قبل الميلاد كانت الشرارة التي انطلقت منها مفهوم المصارف التجارية المعروفة حالياً، ونذكر من هذه المؤسسات أو المصارف بتسميتها الحالية مصرف ايجيبي في مدينة سبار، ومصـرف الانيازير في مدينة اور، ومصـرف موارشو في مدينة نفر.
وعند العرب وقبل الإسلام انتشرت خدمات الصيرفة بتسميتها الحالية في شبه الجزيرة العربية التي كانت مركز للتجارة بين الشام واليمن، حيث كان التجار يودعون أموالهم لدى أشخاص موثوقين للقيام بتجارتهم مقابل أرباح أو عمولات يحصلون عليها، وكذلك يحفظون أموالهم لديهم.
ومن هنا جاءت تسمية سيدنا محمد قبل بدء الدعوة بالحافظ الأمين، كون كانت الناس تودع لديه أموالهم ليقوم بالتجارة ويحقق الأرباح التي تُقسم فيما بينهم.
وكان لاعتبار النقود وسيطاً في التبادلات التجارية دوراً هاماً في تطور عمليات الصيرفة قديماً وظهور مفهوم المصارف التجارية، في حين تأخر ظهور أعمال الصيرفة في أوروبا إلى القرون الوسطى حيث بدأ بعض كهنة المعابد ويهود ذلك العصر قبول الإيداعات وتقديم القروض مقابل فوائد مرتفعة.
اقرأ أيضاً ما هو التسويق الالكتروني المفهوم الشامل
تكوين فكرة ومفهوم المصارف التجارية:
في الواقع فإن نظرة سريعة على نشوء مفهوم المصارف التجارية يقودنا إلى أن هذا المفهوم ينحدر من ثلاثة مصادر رئيسة وهي التاجر والمقرض (المرابي) والصائغ.
فبعد تطور صورة النقود كوسيط في التبادل التجاري وتطور التجارة بين الدول المختلفة والتي كانت تتم من خلال السفن بالبحر، وظهور القراصنة والخوف من ضياع أو سرقة الأموال أثناء الرحلات.
بدء بعض التجار الذين يتمتعون بسمعة جيدة ومركز مالي قوي بإصدار حوالات تقبل لدى الغير وتدفع لصالح طرف ثالث عند القيام بالعمليات التجارية، حيث كانت هذه الصكوك مصدر ظهور الشيكات المعروفة في وقتنا الحاضر.
أما المصدر الثاني من مصادر تكون مفهوم المصارف التجارية وهو المقرض (المرابي)، حيث كان يعمل على حفظ أموال الغير مقابل فائدة يحصلون عليها وبالمقابل يقوم باستثمار هذه الأموال إما بنفسه أو من خلال اقراضها للغير مقابل فوائد أعلى من تلك التي يدفها لأصحاب الأموال لديه.
أما الصائغ فهو المصدر الثالث من مصادر تكوين مفهوم المصارف التجارية، والذي كان يقبل إيداع المصاغ الذهبي والفضي للآخرين لديه مقابل إيصال يذكر فيه ما تم إيداعه، وكانت هذه الإيصالات تُستخدم في بداية الأمر لسحب الذهب والفضة الذي تم إيداعه من قبل المودعين وحسب رغبتهم وفي التوقيت الذي يرغبون به.
إلا أنه لاحقاً لذلك تطور عمل هذه الإيصالات لتصبح أداة تداول مقبولة في تسوية المدفوعات وسداد الديون عوضاً عن النقود نفسها، حيث بات بإمكان المودعين إصدار أوامر للصائغ لدفع كل أو جزء من ودائعهم من الذهب والفضة إلى شخص ثالث من خلال الإيصال الذي لديهم.
ولازال مفهوم المصارف التجارية يستند إلى يومنا هذا على هذه المصارف بأشكالها المتطورة، وقد كان تكون مفهوم المصارف التجارية في أوروبا في القرن الثاني عشر في البندقية في إيطاليا (ومن هنا جاءت كلمة بنك التي كانت تشير في الإيطالية إلى الطاولة التي يجلس إليها الصيرفي ويتم تجميع الأموال عليها).
حين قام بعض الصيارفة ممن يحفظون الأموال لديهم باستخدام هذه الأموال المودعة من خلال إقراض الغير دون علم أصحابها، ونتيجة لعدم التزام الكثير من المقترضين بالسداد ومعرفة أصحاب الودائع بذلك ومطالبتهم بودائعهم فقد أفلس أولئك الصيارفة.
اقرأ أيضاً المرونة السعرية للطلب والعرض من منظور الاقتصاد الجزئي
ولاحقاً لذلك تم إعادة التجربة مع علم أصحاب الودائع برغبة الصيرفي بإقراض أموالهم للغير مقابل دفع فائدة أعلى لهم لقاء قبول ذلك، ومع تطور هذه العمليات ظهر أول بنك حكومي في إيطاليا في البندقية عام 1587 وذلك لضمان سلامة هذه العمليات وخوفاً من التلاعب بأموال المواطنين، ولاحقاً لذلك انتشر مفهوم المصارف التجارية بهذا الشكل في كل أوروبا.
تعريف المصارف التجارية وخصائص عملها:
يصعب إيجاد تعريف موحد للمصارف التجارية، ذلك أن هناك الكثير من المنشآت المالية تتشارك معها بكثير من الخصائص في وقتنا الحاضر، إلا أن أغلب القوانين في البلدان تحظر القيام ببعض الوظائف وتحصر ذلك بالمصارف التجارية مثل تقديم الائتمان المصرفي.
ويمكن القول بأن مفهوم المصارف التجارية أو تعريفها ينطلق من أنها الوسيط بين المدخرات الفائضة والمستثمرين الذين يحتاجون إلى تمويل، وبالتالي فإنها مؤسسات مالية تعمل على تجميع المدخرات الفائضة عن حاجة الأفراد والمنظمات من خلال عمليات الإيداع وفق أسس معينة وأنواع متفاوتة الآجال.
ومن ثم تقوم بتقديم الائتمان من خلال استثمار هذه الودائع لديها للراغبين بالحصول على التمويل لاستثماراتهم وذلك وفق معايير اقراض واضحة ومحددة تخفف من خلالها المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها في سبيل عملها هذا.
ويمثل ذلك المحور الرئيس لعمل المصارف إلى جانب مجموعة واسعة من الخدمات المصرفية التي تقدمها لعملائها، حيث تطورت هذه الخدمات مع تطور الهندسة المالية من جهة وكذلك تطور التجارة العالمية ووسائل الاتصال الحديث من جهة أخرى.
مما سبق نستطيع القول إن خصائص عمل المصارف التجارية تنحصر في ضآلة رأسمالها مقارنة بحجم الودائع لديها، ذلك أن عملها يستند أساساً إلى الاستثمار في الأموال المودعة لديها، وهو ما يقودنا إلى العدد الكبير من المودعين لدى هذه المصارف.
ومن جهة أخرى نجد أن المصارف التجارية تعاني من مخاطر سيولة بشكل أساسي ذلك أنها تقوم بتوفيق أجال الودائع لديها مع آجال الائتمان الممنوح من قبلها، وتكمن عملية عدم التجانس في حال كانت الودائع لديها هي ودائع تحت الطلب الأمر الذي لا يمكّن المصرف من استخدامها في الائتمان المتوسط والطويل الأجل.
كما أن مفهوم المصارف التجارية بهذا الشكل يقودنا إلى أحد أهم الخصائص التي تتميز بها عمليات المصرف لجهة الإقراض وهي مخاطر الائتمان وما يترتب على ذلك من ضرورة اتباع المعايير الملائمة لمنح الائتمان بشكل يخفف من هذه المخاطر إلى الحد الأدنى.
ولما كانت المصارف التجارية تسعى إلى تحقيق الأرباح من جهة والمخاطر الكبيرة التي يمكن أن تحملها عملياتها من جهة أخرى، فقد كان من أهم خصائص أعمال المصارف التجارية هو خضوعها للتشريعات والقيود التنظيمية التي تصدرها الدولة بغية الحفاظ على أموال المودعين.
للمزيد حول What is ‘Commercial bank‘
أهمية المصارف التجارية للاقتصاد:
مع تطور مفهوم المصارف التجارية وتوسع عملياتها المصرفية والخدمات المصرفية التي تقدمها، ازادت أهمية المصارف التجارية بالنسبة للاقتصاد، كونها باتت محرك استراتيجي لمختلف النواحي الاقتصادية في الدولة، ذلك أنها تؤدي ثلاثة أدوار رئيسة كونها وسيط بين المدخرين من جهة والمستثمرين أو المقترضين من جهة أخرى.
فهي لازمة لتنشيط التبادل التجاري داخل وخارج الاقتصاد الوطني، وكذلك فإنها الأداة الأساسية في توجيه المدخرات نحو الاستثمار، وأخيراً فإنها أداة تأمين.
فبالنسبة لعمليات التبادل التجاري، تؤمن المصارف التجارية عمليات تسوية المدفوعات بين البائع والمشتري، ذلك أن الإنتاج يعتمد على مواد أولية ليصار إلى انتاج السلع النهائية للمستهلك، وعليه فإن المصارف التجارية تسهل عمليات التحويلات المالية بين هذه المستويات من جهة وبين التجار والصناعيين من جهة أخرى داخل الاقتصاد الوطني.
كما أنها توفر عمليات تسوية المدفوعات الدولية خلال عمليات الاستيراد والتصدير، من خلال التعامل بين المصارف التجارية المحلية وتلك الموجودة في بلد المصدر أو المستورد، حيث ساهمت التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة توفير مثل هذه الخدمات.
أما بخصوص توجيه الادخار نحو الاستثمار، فمن المعروف أن الاستثمار بمفهوم التراكم الرأسمالي (مصانع، آلات، مشاريع ضخمة) لا يمكن أن يتم من خلال الادخار الفردي، ومن هنا جاء مفهوم المصارف التجارية ودورها في تعبئة المدخرات الفردية وتوجيهها نحو الاستثمار من خلال منح الائتمان للمستثمرين وأصحاب المشاريع.
وأخيراً فإن مفهوم المصارف التجارية يحمل في طياته القيام بدور ثالث ذو أهمية كبيرة للاقتصاد، ألا وهو التأمين ضد الحوادث أو المخاطر المختلفة، وذلك من خلال مجموعة واسعة من الخدمات التي تمكن الأفراد والمؤسسات من التحوط ذد المخاطر التي يمكن أن يتعرضوا لها.
للمزيد حول المصارف التجارية
وبذلك نجد بأن مفهوم المصارف التجارية تطور عبر الزمن لحين وصوله إلى ما نعرفه في يومنا هذا، حيث تعتبر الصناعة المصرفية من أكثر الصناعات المواكبة للتطورات التكنولوجية، والمتغيرة باستمرار بما يسهم في المحافظة على دورها الريادي كمحرك للاقتصاد.