يعتبر استهداف التضخم أحد استراتيجيات السياسة النقدية الحديثة نسبياً حيث كانت نيوزيلاندا البلد الأول الذي تبنى رسمياً استهداف التضخم في عام 1990، ثم تبعتها كندا في 1991, المملكة المتحدة في 1992 السويد و فنلندا 1993 ,استراليا و اسبانيا 1994 و كذلك تشيلي و البرازيل، حيث تتجه عديد من اقتصادات السوق الصاعدة أو الاقتصادات المنخفضة الدخل إلى اتباع مثل هذه الاستراتيجية حالياً، وعلاوة على ذلك تبّنى عدد من البنوك منها البنك المركزي الأوروبي و الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي كثيراً من العناصر الرئيسة لاستهداف التضخم، وعديد من البنوك المركزية الأخرى في طريقها للتحرك نحو هذه السياسة.
مفهوم استهداف التضخم:
يعرف بعضهم استهداف التضخم على أنه “نظام للسياسة النقدية يتميز بالإعلان العام عن هدف كمي لمعدل التضخم لفترة زمنية واحدة أو أكثر، مع الاعتراف الظاهر بأن تخفيض واستقرار التضخم في المدى الطويل هو الهدف الأولي للسياسة النقدية”.
وعلى الرغم من مرور عديد السنين على أول تبني لاستهداف التضخم يُثار بعض الإرباك والجدل في كيفية تعريف هذا المصطلح، فمنهم من يعتبره إطار للسياسة النقدية ومنهم من يعتبره قاعدة مثلى للسياسة النقدية أمثال سفينسون.
كما يثير استهداف التضخم جدلاً فيما يتعلق ببعض الدول من حيث هل تُعتبر مُستهدفة للتضخم أم لا، فعلى الرغم من أن بعض البنوك المركزية مثل البنك المركزي الأوروبي يعلن عن أهداف للتضخم إلى أنه يفتقر للميزات الأخرى التي تجعله يطبق سياسة استهداف التضخم.
كما تصر بعض البنوك مثل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي على أنها لا تتبع نظام استهداف التضخم على الرغم من امتلاكها أغلب (وفي بعض الأحيان) كل المميزات الأخرى لاستهداف التضخم، مع عدم إعلانها عن استهداف التضخم.
ولعل اشمل تعريف لاستهداف التضخم الذي طرحه الاقتصادي الأمريكي ميشكن (Mishkin) والذي بيّن فيه العناصر الرئيسة التي يشملها استهداف التضخم:
“استهداف التضخم” استراتيجية من استراتيجيات السياسة النقدية تشتمل على خمسة عناصر رئيسة:
1-إعلان عام وصريح عن هدف رقمي متوسط الأجل للتضخم.
2-إلتزام السلطة النقدية بتحقيق استقرار الأسعار كهدف أساسي للسياسة النقدية واعتبار كل ما تبقى من أهداف أخرى أهداف ثانوية.
3-بناء نماذج رقمية شاملة ليس فقط للمجاميع النقدية أو سعر الصرف، بحيث تتضمن هذه النماذج مجموعة من المتغيرات، وذلك لاستخدامها في تحديد أدوات السياسة النقدية.
4-زيادة شفافية السياسة النقدية وذلك من خلال التواصل مع الجمهور والسوق حول الخطط والأهداف والقرارات التي تتخذها السلطة النقدية.
5-إمكانية مساءلة المصرف المركزي عن تحقيق هدفه المعلن.”
ولا بد من تحقق كافة هذه الشروط حتى يُعتبر الاقتصاد متبني لاستراتيجية استهداف التضخم.
وفي إطار استهداف التضخم تلتزم السلطات النقدية بالوصول إلى معدل ما للتضخم-عادة ما يُحدد بمدى معين-خلال فترة زمنية محددة، ويتضمن هذا الإعلان عن معدل مستهدف للتضخم يتعهد البنك المركزي بتحقيقه خلال مدى زمني معين. اقرأ أيضاً معنى التضخم الاقتصادي
أسباب تبني استراتيجية استهداف التضخم:
- فشل البنوك المركزية في استخدام سياسة المتغيرات الوسيطة، كالقاعدة النقدية واستهداف سعر الصرف لتحقيق أهداف متناقضة، كاستهداف سعر الصرف والمعروض النقدي لتحقيق أهداف متعارضة تتمثل في زيادة النمو الاقتصادي وتخفيض معدل التضخم.
ويرجع التعثر في استخدام هذه السياسة لسببين، الأول أن التناقص بين تلك الأهداف يخلق حالة عدم يقين لدى الجمهور وعملاء السوق بشأن أي منهما له الأولوية في التحقيق، أما السبب الثاني فهو أن المتغيرات الوسيطة مثل معدل نمو القاعدة النقدية أو أسعار الصرف قد تتغير قوة ارتباطها، وكذلك تأثيرها على كل من معدل نمو الناتج القومي ومعدل التضخم من وقت لآخر.
2- أن الإطار العام لهذه السياسة يتسم بالبساطة نسبيا ويمكن تفهمه من قبل العامة والمشاركين في السوق.
3- أنها تسمح بقدر أكبر من التركيز على هدف استقرار الأسعار واعتباره الهدف الوحيد للبنك المركزي بدلاً من تحقيق أهداف قد تكون متضاربة للمصرف المركزي.
4- أنها تزيد من الشفافية في إدارة السياسة النقدية.
5- أنها تزيد من مصداقية السلطات النقدية تجاه الالتزام بمعدل التضخم المستهدف، وهو ما يسهم في خلق الثقة التي تدفع الفاعلين الاقتصاديين إلى التوفيق بين توقعاتهم عن معدل التضخم وبين المعدل المعلن.
6- الحد من عدم اليقين حول مسار التضخم في المستقبل من شأنه أن يساعد على تحسين قرارات الاستثمار والادخار، مما يحفز على زيادة الإنتاجية بشكل عام.
كما أن توضيح نوايا البنك المركزي يمكن أن يسهم في الحد من تقلبات الأسواق المالية، مما يؤثر إيجاباً على هامش المخاطرة وعلاوة سعر الصرف.
وقد قامت الدول بتطبيق هذه السياسة للحد من معدلات التضخم، وزيادة الثقة، وتحقيق الاستقرار بالنسبة للتوقعات المستقبلية. اقرأ أيضاً أسباب التضخم الاقتصادي
وتحقق هذه السياسة عديد المزايا العملية للدول النامية، كما تساعد صانعي السياسة على تعميق الإصلاحات، ودعم الشفافية، وتحسين الأوضاع المالية، ومع ذلك فإنه تجدر الإشارة إلى أن تطبيق مثل هذه السياسة يتطلب توفير السلطات النقدية للقدرات المؤسسية والتشغيلية والفنية اللازمة لبناء نماذج كمية لمعدلات التضخم المحلية.
تصميم هدف التضخم:
إن نجاح استراتيجية استهداف التضخم يستند بشكل رئيس على تصميم هدف التضخم الذي يعتمده المصرف المركزي بشكل دقيق ومتقن، حيث من المفترض أن يؤدي ذلك إلى:
- تثبيت توقعات التضخم، وذلك من خلال إرسال إشارات من قبل المصرف المركزي للمتعاملين في السوق والأفراد حول التزامه بالهدف المعلن.
- تحديد النقطة التي يجب أن تبدأ عندها مساءلة المصرف المركزي.
- يجب أن يكون هذا الهدف متسقاً مع أهداف المصرف المركزي الأخرى.
حيث يتضمن تحديد الهدف في ظل استراتيجية استهداف التضخم مجموعة من العناصر:
- تحديد هدف رقمي للتضخم.
- تحديد المقياس الذي سوف يستخدمه المصرف المركزي في قياس التضخم.
- المدى الزمني للاستهداف.
- عبارات التهرب.
وسوف نستعرض كل من هذه العناصر في الآتي:
1- تحديد هدف رقمي للتضخم:
إن هدف المصرف المركزي في تحقيق استقرار الأسعار قد تمت ترجمته في الحياة العملية بقيام المصارف المركزية باستهداف معدلات تضخم منخفضة وموجبة.
هنا يجب أن يكون معدل التضخم مقبولاً بالمقارنة مع معدل التضخم وقت البدء بتطبيق سياسة الاستهداف.
ولا يتم عادة استهداف معدل صفر للتضخم، لأسباب تتعلق بصعوبات تثبيت الأجور النقدية والأسعار في الحياة العملية لهذا الحد وبسبب المخاوف من حدوث الكساد الناجم عن إتباع سياسات نقدية تشددية يمكن أن تضر بالنمو.
وعلى الجانب الآخر فإن تحديد هدف تضخم مرتفع قد يضر بالنمو الاقتصادي.
من الضروري الإشارة إلى أنه يتوجب عند اختيار هدف التضخم الاختيار بين استهداف معدل محدد لمعدل التضخم أو استهداف مدى (نطاق) معين بحدين أقصى وأدنى.
حيث تقوم معظم المصارف المركزية باعتماد نطاق للاستهداف حيث تلعب النقاط على طرفي مركز الاستهداف دورا رئيسيا في الاستراتيجية النقدية. اقرأ أيضاً اثار التضخم الاقتصادي ومعالجته
2- تحديد المقياس المناسب للتضخم:
كالرقم القياسي لسعر المستهلك أو مخفض الناتج المحلي الإجمالي، وتميل البنوك المركزية عادة إلى استخدام الرقم القياسي للمستهلك حيث أنه متوفر شهريا ومعروف معناه ومكوناته لدى الجمهور وعملاء السوق وقلما يتم تعديله بعد نشره.
3- المدى الزمني للاستهداف:
يعرف أفق الاستهداف بأنه الفترة الزمنية التي يعتبر المصرف المركزي نفسه مسؤولاً عن تحقيق هدف التضخم الذي وضعه لنفسه.
ولكي يكون لهذا الأفق معنى يجب أن يأخذ بعين الاعتبار فترات التباطؤ بين قرار السياسة والأثر على المخرجات، وبالتالي فإن تحديد أفق أقصر يعني بأن التضخم سوف يكون خارج سيطرة المصرف المركزي.
أما تحديد أفق زمني أطول يعطي المصرف المركزي مرونة في تحقيق أهدافه الأخرى دون الإضرار بهدف التضخم. وبالتالي فإن تحديد أفق الهدف يجب ألا يقل عن الفترة اللازمة لانتقال أثر السياسة، كما لا يجب أن يتجاوز الإطار الزمني الذي يستطيع فيه المصرف المركزي إنتاج تنبؤات ذات جودة عالية.
4- عبارات التهرب:
تستخدم عبارات التهرب عندما ينحرف معدل التضخم المستهدف عن المستوى المرغوب، بشكل عام تستخدم هذه العبارات عند تعديل الأسعار الإدارية أو في حال التغير في الضرائب غير المباشرة، وبشكل أقل عندما تحصل تقلبات في أحد مكونات مؤشر الأسعار مثل أسعار الطاقة والغذاء.
عادة تستخدم المصارف المركزية عبارات التهرب للتواصل مع الجمهور بعد حصول صدمة تؤدي إلى تغيير مسار التضخم عن المسار المستهدف، وتبرير الطريقة التي تعامل المصرف المركزي بها مع هذه الصدمة.
كما قد تفيد هذه العبارات لتجنب المسؤولية عن عدم تحقيق الهدف من قبل المصرف المركزي وذلك في حال كانت هذه العبارات متضمنة في قانون المصرف المركزي.
تقسيم استراتيجيات استهداف التضخم:
يمكن تقسيم الاستراتيجيات المتبعة في استهداف التضخم إلى ثلاثة أقسام رئيسة كما يلي:
1- استراتيجية كاملة لاستهداف التضخم:
تتميز هذه الاستراتيجية بمستوى عالٍ من مصداقية المصرف المركزي، إضافةً إلى الالتزام من قبله بتحقيق الهدف المعلن، وذلك عن طريق تصميم سياسة نقدية شفافة تدعم إمكانية تحقيق الهدف والقدرة على مساءلة المصرف المركزي عن هذا الهدف.
وهذا ما يقلل من عدم الاتساق الحركي في السياسة النقدية وتعتبر أكثر السياسات شهرة في مجال استهداف التضخم وتعتبر نيوزيلاند من الدول التي تتبنى هذه الاستراتيجية.
2- استراتيجية انتقائية:
يتمتع المصرف المركزي وفق هذه الاستراتيجية بدرجة عالية من المصداقية ولكن بدون التزام صريح من قبله بهدف محدد لتضخم، يعتبر المصرف المركزي الأوروبي أحد متبعي هذه الاستراتيجية، وتختلف هذه الاستراتيجية عن غيرها بكيفية تعريف هدف التضخم وكيفية تطبيق السياسة النقدية.
يتمتع المصرف المركزي هنا بدرجة مصداقية منخفضة بالإضافة إلى عدم قدرته على الحفاظ على معدل التضخم قريبا من الهدف.
حيث لا تستطيع الدول في هذه الحالة من إعلان التزامها بتحقيق هدف معين للتضخم. وتعكس هذه الاستراتيجية ما يلي:
1) -ضعف السياسة النقدية وهشاشتها أمام الصدمات التي تصيب الاقتصاد.
3- استراتيجية مخففة:
2)- ضعفاً في الإطار المؤسساتي للمصرف المركزي.
وبذلك نجد بأن استهداف التضخم إطار لتحقيق الهدف النهائي من السياسة النقدية، إذ تطمح السياسة النقدية إلى السيطرة على التضخم والحفاظ على معدلات النمو الاقتصادي عند المستويات المطلوبة، بما يسهم بتوفير بيئة اقتصادية تتميز بمعدلات نمو غير تضخمية. للمزيد يمكن الاطلاع على دراسة البنك المركزي الأوروبي
وعليه فقد تم تسليط الضوء على سياسة استهداف التضخم من خلال الإلمام بمختلف المفاهيم النظرية المرتبطة بالمصطلح.
المراجع:
- Eser Tutar.Inflation Targeting In Developing Countries And Its Applicability To The Turkish Economy
- Frederics. Mishkin The Economy of Money Banking And Financial Markets,2005
- Ludfig sodreling an Expert in IMF “Economic Forum about possibility of Targeting Inflation in Egypt 2003.
- يمنى شعيب، دور السياسة النقدية في علاج ظاهرة التضخم في الاقتصاد السوري، جامعة دمشق,2009.
- ناجي التوني، استهداف التضخم والسياسة النقدية، المعهد العربي للتخطيط، الكويت,2002.
- حساني، عبد الرزاق حوراني، أكرم، النقود والمصارف 2010.
- أحمد جامع، النظرية الاقتصادية، الجزء 2.
- غازي حسين عناية. التضخم المالي، مؤسسة شباب الجامعة
1 thought on “استهداف التضخم كأحد استراتيجيات السياسة النقدية”
Comments are closed.